سجناء مصر فى الداخل و الخارج

بقلم: دكتور محمد جمال حشمت*
لا سمح الله لا أقصد أن مصر تملك قدرةَ سجن أبنائها خارج حدود الوطن!! ولكن أقصد سجناء مصر في داخل أسوار السجون التي ملأت أركان مصر وخارج الأسوار، ولعل أمثالي ممن يغضب عليهم النظام الحاكم- القابع على صدر مصر دون رضا أهلها- يستشعر هذا الإحساس.. القيد الحديدي وقد التفَّ حول جسده، وهو خارج أسوار السجون، يحرمه من ممارسة حياته الطبيعية، والحصول على حقوقه الإنسانية والسياسية وحتى الاجتماعية في كثير من الأحيان!! ويزداد هذا الإحساس عندما تهمُّ بالسفر لقضاء مصلحة أو لأداء عبادة، أو بحثًا عن علم أو رزق، فإذا بالمنع من السفر يقف لك بالمرصاد، ينفذه من ينفذه بدماء باردة وإحساس منعدم من المسئولية، وبخطورة ما يترتب على ذلك من ظلم يقع على بريء اللهم إلا أن دمه "تقيل" على قلب البعض أو لرغبة في الضغط أو الشعور بالانتصار وممارسة إذلال الخصوم وإظهار مدى عجزهم عن التصرف وتحقيق مجرد الرغبة في السفر بعيدًا عن إرادة أي باشا من باشاوات الزمن الصعب الذي تمر به مصر!!

ثمانى مرات يتم منعي من السفر، فتتحوَّل جدران المطار الزجاجية أمامي إلى أسوار حجرية تماثل سجون الداخل المنتشرة في شمال وغرب وجنوب مصر!! ورغم حصولي على حكمَين قضائيَّيْن، أولهما ما صدر في الدعوى رقم 23053 لسنة 59 ق وآخرهما ما صدر في الدعوى رقم 14906 لسنة 60ق والمقامة من الفقير إلى الله تعالى ضد وزير الداخلية بصفته ومدير مصلحة الجوازات والهجرة والمودعة بتاريخ 20 فبراير 2006م، وبعد استعراض كافة الضمانات والحقوق المنصوص عليها في الدستور والاتفاقيات الدولية والقوانين المصرية.

وبعد استعراض مبرِّرات الجهة الإدارية التي فنَّدها الحكم ووصفها بعدم الجدية حكمت المحكمة ببراءة ساحة المدعي مما يستوجب إدراجه على قوائم الممنوعين من السفر، ووقف تنفيذ القرار المطعون عليه، وأُلزمت الجهة الإدارية بالمصروفات، وقد صدر القرار في 23 سبتمبر 2006م!! هذا بجانب شهادة رقم 4565 لسنة 2005م الصادرة من مصلحة الجوازات والهجرة والجنسية وإدارة الشئون القانونية بما يفيد بأن الفقير إلى ربه غير مدرج على قوائم الممنوعين من السفر!! إذن ماذا يحدث؟!

أظن أنه في ظل "عسكرة" القضاء بعد التعديلات الدستورية وهيمنة الأمن الحامي للنظام وأفراده ضد الشعب وأبنائه تتضح الإجابة، لكنَّ ما حدث آخر مرة جديد وعجيب!! بل يبدو أنه تصرفٌ طفوليٌّ ثأريٌّ لا ضرورة له حتى لمجرد إظهار الاحترام لأداء مؤسسات الدولة، بغض النظر عن مدى احترام نتائج هذا الأداء، بالضبط كالحكم القضائي، فقد خرج منصفًا للمظلوم ولكنه لم يستهلك دقيقةً أو أقل من ضابط المطار حتى ليطلع عليه!! ما حدث في يوم الجمعة 27 أبريل 2007م، أنه بعد المنع من السفر قبل صعود الطائرة بعشر دقائق دون مبرِّرات لها قيمة- غير أن التعليمات من الفرع كده!!- المهم ذهبت لنقطة شرطة المطار لعمل محضر إثبات حالة بالمنع، وبعد انتظار أكثر من ساعة ونصف اعتذر العقيد رئيس النقطة بأدبٍ جمٍّ، ناصحًا إياي بالذهاب لقسم شرطة النزهة لعمل المحضر؛ حيث إن النقطة تابعةٌ له إداريًّا، وقد حدث.

وهناك وجدت نقيب شرطة اسمه محمد لطفي الغزولى استمع لطلبي بعمل المحضر، بعد أن فهم الموضوع، وقد استغرق فهمه واتصالاته أكثر من ثلاث ساعات، وعندما أخبرته بأنه إذا كانت هناك ضغوطٌ فأنا متنازل بدلاً من إضاعة الوقت هكذا، خاصةً أن أحوال أقسام الشرطة لا تسرُّ عدوًّا ولا حبيبًا، والقعدة فيها مُرَّة مرارة العلقم، وما رأيته يحتاج إلى مقالات تؤكد أن ما عاينته بنفسي في الثلاث ساعات هو عين ما يدور في عموم مصر، كأن مصر تحيا في قسم شرطة، يستفرد بأبنائها أنماط عجيبة من ضباط وصف وأمناء وجنود ومخبرين!!

المهم فوجئت بكتابة المحضر من طرف واحد دون سين وجيم كما هو متبع!! ومطلوب مني التوقيع، فقرأت ولم أجد سوى منعي من السفر عند ركوب الطائرة ولم يثبت أي شكل من أشكال الأضرار التي لحقت بي ولا أي شيء آخر!! المهم عشان أخلص وأستطيع أن أستوعب ما مرَّ بي في لحظات هدوء أختلي فيها بنفسي وقَّعت على المحضر المكتوب في صفحة وسطرين!! وطلبت إدراج صورة "الباسبور" وإلغاء ختم السفر وصورة الحكم القضائي المهدر على أعتاب أمن المطار بالمحضر، ووافق الضابط الشاب دون إكتراث؛ مما جعلني أشكُّ في جدية الإجراء، ثم طلبت رقم المحضر فأعطاني ورقةً وقلمًا وأملاني رقم 5523 إداري النزهة 2007م، دون أن يتحرك أو يرسل المحضرَ للقيد في دفتر القيد!!

ولأني لم أشأ تصعيد الأمور مع شاب يبدأ حياته تحت متابعة وتعليمات من نائب المأمور ورعاية من أمن الدولة فقد شكرته وانصرفت، وأرسلت له محاميًا للاستعلام عن المحضر بعد يومين، فكانت الإجابة كما توقعت: لا محضرَ موجودٌ، ولا رقمًا صحيحًا، ولا شيءَ يثبت حقي، والذي هو إجراء شكلي لا يقدم ولا يؤخر!! وها أنا قد استكملت إثباتاتي وشهودي على عمل المحضر في المكان والموعد المحدد لاتخاذ ما يلزم من إجراء قانوني ضد هذا العبث بإرادة الناس وحفظ حقوقهم!! أي والله يحاصروننا ويمنعوننا حقوقنا بإهدار الدستور والقانون- الذي أقسمت عليه الوزارة ووزير الداخلية بالله العظيم للحفاظ على حق الوطن والشعب عند تولي مسئولياتهم!!- ونحن نواجههم بالدستور والقانون واللجوء إليهما، فلا نملك إلا الحق والاستعانة بالله على من ظلمنا!! وهو حسبنا ونعم الوكيل.

لا أدري إلى متى تظل الأمور هكذا بين نظام متغوِّل، يملك كل الصلاحيات ويمارسها بعسف وظلم واضح انتصارًا لفريق من أبناء الوطن تحميه دولة ويحميها، ضد فريق معارض من أبناء الوطن أعزل إلا من إيمانه رافضًا للفساد والاستبداد الذي ملأ أركان مصر، وقد ارتبطت مصالح الفريق الباغي بوجود النظام الفاسد، ورغم قلتهم في كل المؤسسات لكنهم القابضون على السلطات في دولة تقدِّس المركزية أورثت أبناءها ثقافات الخوف والسلبية والأنانية والنفاق، فصارت الأمور على ما هي عليه، يدفع فريق من أبناء الوطن الشرفاء العلماء المقاومين ضريبةَ وعيهم وثباتهم ورفضهم للظلم، بينما فريق آخر يتلذَّذ بتعذيب معارضي النظام الفاسد يحاصرهم ويلفِّق لهم الاتهامات ويشوِّه صورتهم، وهو يعلم يقينًا أنهم من أشراف الوطن وأخلصهم بل وأكثرهم حبًّا له؟! لكن لعنة الله على الضعفاء المنافقين الكاذبين الذين استمرؤوا الكذب على أهليهم ويظنون أنهم من الناجين!!

ليست القضية منع أفراد أو الشعب كله من السفر وحرية الانتقال!! بل القضية هي حقوق يجب أن تجد من يدافع عنها ويطالب بها، رغم مناخ اليأس الذي يسعى النظام المصري إلى إشاعته!! وما يدري هؤلاء أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

تلك هي رسالتي التي ما زلت متمسكًا بها التزامًا بالأخلاق والقانون؛ ردًّا على رسائلهم الظالمة التي لا يستطيعون مواجهتنا بها إلا وهم مدجَّجون بالسلاح والحرس!! فقط هناك وسط هذه الترسانة يشعرون بالأمان والاستكبار، ولا يدرون أن الله لهم بالمرصاد في الدنيا قبل الآخرة؛ لأنها لا تدوم لأحد، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره ذهب وانفصم، ونحن ندرك بعميق إيماننا أنهم يألمون كما نألم ولكننا نرجو من الله ما لا يرجون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.